ونحن على عتبة ذكرى استعادة الجزائر لسيادتها الوطنية؛
أقترح على قرائي القدامى والجدد هذا النص الذي أحبه كثيرا.
قراءة ممتعة أتمناها للجميع …
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
وردة القلب …
……………..
(1)
في القلب وردةٌ ليست ككل الورود… قديمةٌ، جديدةٌ، وجودها جاء من غيب الوجود، وغدها مُمْتد ممتد ممتد من غير حدود … ألوانها تهمس في الدياجي فتضيء، وتـُحوِّل ما ساء إلى ما لا يُسيء، من غير أن تُحْرِج أو تـَجرح أو تتوحْوَح أو تُسيء … كانت في قلبي وكنت في قلبها قبل الزمن، وفي الزمن، وبعد الزمن … فيها من لون الرمل إذا تجلى، ولون السهل إذا تحلـّى … فيها شذى البسمات الهامسات، وندى الإشراقات الربيعيات، وصدى الإيقاعات الحالمات… فيها لـَحْنُ الجبل، ووشم الطلل، وما يجود به البحر دونما وجل … ذات مرة بادرتها وهي تبادرني فقالت:
– عشقك أكبر وأحلى من العشق، وأنا أكبر وأحلى من العشق !؟
وبعدما عطـّرها عطرُها العطِر وزاد في سحرها سحرُها السحِر، قالت وهي تتشكل قلبا لي وقلبي يتشكل نبضا لها:
– هكذا هو العشق الذي يفوق العشق !؟
(2)
في القلب وردة ليست ككل الورود… هي لا تـُقطف ولا تـُعطف ولا تـُصرف، ولا يأتيها أبدا الوَهنُ أو الخرَفُ… تتجدد – جليلة جميلة- كل يوم، ويتبدد الحاسدون لها – وما أكثرهم – كل يوم، ويتعدد الهائمون بها – بحرقة- كل يوم، وتصير وردة اليوم – بجدارة- كل يوم … فيها تزاوجات البحار بالقفار بالأمطار بالأوتار بالأسرار فيما دُوِّن في دفاتر الأخبار وما حكته خلسة فراغات النثريات ورمزيات الأشعار… كأنها الشمسُ إذا شربت الشمس… كأنها النفس إذا رسمت النفس.. كأنها سَمَر الحشود والجنود والرعود والحرف الممدود والعصر غير الموعود… يرنو إليها القمر في صمته الأزلي فترسم نورا دافقا في وجه الحزين، ولما يكتمل الليل يبتسم باكيا ثم يغرق في أمواج الأفق، وهو يتمتم معبورا مبحوحا:
– يا ليلُ.. يا ليل.. متى تعود يا ليل…
(3)
في القلب وردة ليست ككل الورود… حكايتي معها بدأت قبل البدء، ولن تنتهي حين الانتهاء… منبت ساقها مخضب بدمي، ودم أسلافي وأحلافي، وخضّات أشواقي وأطيافي… وبعد ألف مُزْن ومزن لم تـَغسِل هذه الدماء، بل حوَّلتـْها إلى حِنّاء سمراء حمراء… لما أراها أرى الشطآن والخلجان والكثبان وعبير الريحان وتقاسيم الأوزان وقهقهات الصبيان في تداخلات الأزمان بين مكان ومكان… لما أراها تجتاحني الرياح اللواقح، وترفرف بي الطيور الصوادح، فتلهمني ما لم ينتبه إليه قادح أو مادح طيلة تاريخ الجوارح والرواجح… لما أراها لا يبقى للحزن معنىً ولا للحرق مبنىً وتذوب الآهات والزفرات في سراب السرابات العابرات… لما أراها، وتراني أراها، أكتشف من أنا، وأدرك من أين جئت، وكيف جئت، وإلى أين أنا سائر بيقين… لما أراها تائها في هواها سابحا في مناها، تقول والشذى يملأ جنبات الكون:
– أنا أسكنك وأنت تسكنني.. أنت تسكنني وأنا أسكنك…
(4)
في القلب وردة ليست ككل الورود… رحيقها العاتي نكهة التناغم المسرود، وزوارقها تتزحلق في تموُّجات الجود والسجود والوجود… بعضها من زرابينا المزركشة بالأمجاد، وبعضها من أناشيدنا في الوغى لما قهرنا الأحقاد، وبعضها من سلاسل الأطلسين ومطلع الشمسين وخواتم اليدين وحمرة الخدين ورعشة العشق ذات التجلي في العينين… فيها السروج والمروج والمرتفعات ذات البروج… تتداخل في أجوائها بسمات الزهور، ويكسوها ربيع الأحقاب بنشوة البخور… ظنها بعضهم منبع العطر المغرور لكنها كانت وستبقى منبع الحبور في الدهور ووساما في صدور ينبعث منها نور النور… قالت لما سألتها عن هذا:
– أنا النور، ومن نوري يولد السرور…
(5)
في القلب وردة ليست ككل الورود… ليست من الفواطم الراقيات، ولا من الزينبات الرقراقات، ولا من العذروات الحالمات كيفما كانت التسميات… ليست قصيدة ملحمية أصبحت في الدهر نشيد الأناشيد، ولا رواية عبقرية صارت أول رمز في سرد التجويد، ولا تحفة فنية أخراة يهفو إليها كل مبدع فوق المُجيد… ليست من معجزات الحدائق ولا من آيات الشقائق، ولا من ذوات العجائب والخوارق… ليست حجرا كريما ولا كل الأحجار الكريمة والثمائن العظيمة… ليست بعض رمال وتلال وجبال وأدغال وأزجال تغازل نور هلال… ليست مجرد كلمة مرمرية في صفحة قاموس، ولا بهجة بستانية في صدر كاعب عروس ولا وقفة نجم طارق في اضطراب المساء العبوس… ليست جزءً من التاريخ، بل هي التاريخ وتاريخ التاريخ وفلسفة التاريخ وكل أشواق التاريخ… في القلب وردةٌ هي الجَزائرُ… الجزائرُ… الجزائرُ… فاشهدوا… فاشهدوا… فاشهدوا…
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
إمضاء : الأستاذ الدكتور بومدين جلّالي – الجزائر