#قصة_قصيرة
#هل_ينفع_الندم
فِي صِغَرِي كُنْت كثيراً مَا أَرَى أخوة أُمِّي مميزون – وكَيْفَ لَا أَرَى ذَلِكَ وَهِي تلَوَّن شخصياتهم فِي نَظَرِي و نَظَر إخْوَتِي طَوَالَ الوَقْتِ – إخْوَتَهَا مِنْ أُمِّهَا كَانُوا أَرْبَعَة، إلَّا أَنَّهَا كَانَتْ تعتبرهم أشِقَّاء، ومُؤَخَّرًا عَرَفْتُ أَنَا وإخْوَتِي أَنَّهُم إخْوَتَهَا مِنْ أُمِّهَا..
كَانَتْ تَقُولُ: (الأخ مِنْ الْأُمِّ نِصْفُ الشَّقِيق )
كانت تُرَدِّد هَذِهِ الْكَلِمَاتِ عَلَىٰ لِسَانها، وأَيْضًا كَانَتْ لَا تخجل فِي أَنَّ تصارحنا قائِلَة:
(خوالكم معزتهم عِنْدِي كَيْف معزتكم و أَكْبَر لِأَنَّهُم عيالي قَبْلَكُم)
كُل مِنْ رَأَى وَالِدَتِي مَع إخْوَتَهَا الْأَرْبَعَة؛ ظنّ أَنَّهُم أبنائها
لَازَال أمَامَ عَيْني ذَلِك الْمَشْهَد عِنْدَمَا أَتَانَا أَصْغَرَهُم يُبَشّر بِنَجَاحِه في الْمَرْحَلَةَ الثَّانَوِيَّةَ بتفوق، ففرحت وَالِدَتِي إلَّا أَنَّهُ تَذَمَّر وقَال (جميع أصدقائي من الناجحين يجهزون للمرحلة الثانوية يشترون الملابس والأحذية التي تليق بهم أما أنا فلا أمتلك حتى حق دفتري)
ابتسَمَت وَالِدَتِي ووَضَعَتْ يَدَهَا عَلَى رَقَبَتِهَا تحسست مَا فِيهَا مِنْ ذَهَبٍ ثُمَّ خَلَعْت عقدها الثَّمِين – الذي كَانَ هَدْية مِنْ أَبِي- وَهُو غاليٍ عِنْدَهَا كَمَا تَرَدَّد دَائِمًا، إِلَّا أَنَّهَا أَعْطَتْه إلَى خَالِي لِيَشْتَرِيَ مَا يَشْتَهِي ظنَّاً مِنْهَا أَنَّهُ لَنْ يَنْسَى الْخَيْرَ وَهِي على يقين أَنَّ أَبِي لَن يُعَارِض باعتبار أخوة أُمِّي هُم سَنَدُهَا من بَعْدَه
لا زلت أَتَذْكُر تَرْبِيَة أَبِي لخلاّني نَعَم تَرْبِيَة فَقَدْ كَانُوا صِغَارٌ صَرَفَ عَلَيْهِمْ، عِلْمِهِم القِيادَة، وذبْحِ الشَّاة، ولَعِب الْوَرِق، واعْتَنَى كثيراً بجدتي، ونقلْهَا مِن مَشْفَى إلَى آخِرِ، واسْتَأْجَر لَهَا الْأَطِبَّاء و الْمُخْتَصِّين، قَبْلَ أَنْ تُفَارِقَ الْحَيَاة،
كَان جَمِيعِنَا يَظُنُّ أَنَّ أخَوَالِي هُمْ مِنْ أَفْرَادِ أسرتنا لَم تَخْطُر عَلَى بَال أحَدَنَا فَكَرِة أَنَّهم سينكرون الجميل قَرِيبًا ويَكُون خيرهم لِغَيْرِنَا..
لا زلت أَذْكُر أَوْسَطُهُم، كَانُوا اثْنَان الْفَارِق الْعُمَرِيّ بَيْنَهُم أَشْهُر، يَدْرُسُون الْهَنْدَسَة، ويَتَّصِفُون بِأَخْلاَق حَمِيدَة، أُمِّي تمدحهم كثيراً، وتَمَدح أَخْلَاقِهِم، وتَدْعُونَا أَن نكونَ مِثْلَهُم، ولِمَ لَا؟ وَهُم أَحْمَد وحَامِد، لَن نَشْعُر يَوْمًا أَنَّهُم أخوالنا، لطالما يَلْعَبُون مَعَنَا، ويَأْكُلُون مَعَنَا، ويزاحموننا عَلَى حَضَن أُمِّي، ونتسابق في غيرتنا عليها، فَهُم يَأْخُذُون كُلّ مَشَاعِر وأحاسيس أُمِّي، و يَتَعَلَّمُونَ مِنْ أَبِي، وَيُعْطِيهِم مَا عِنْدَهُ بِكُلِّ حُبّ..
مَا زَالَ فِي ذاكرتي صدى أهازيج زواج أَكْبَرَهُم، “عمَرو” الْأَقْرَب لِقَلْب أُمِّي، زَوْجَتُهُ بِنْتُ عَمِّهِ، تلك المرأة الأميّة، الفَظَّة، التي لَا تعرف اللباقة، إلَّا أَنَّهَا وبرَغْمَ مَا فِيهَا مِنْ عُيُوبِ اِسْتَطَاعَتْ أنْ تحتلَّ قَلْبِ خَالِي، لَا لا.. لَيْس قَلْبِه فَقَطْ؛ بَلْ قَلْبِه و عَقْلُه معاً، إنَّهَا اِسْتَحْوَذَتْ عَلَيْهِ بالكامل، فَأَصْبَحَ يَرَى بعينها، ويُسْمَعُ بأذنها، كيف لا، وقد وصل بها التطاول، إلى اتَّهَامها لأمي بالسرقة، بعد زفافها بيومين!
كَانَت أُمِّي لَا تُبَالِي، لِأَنَّهَا تَعْلَمُ أَنَّ إخْوَتَهَا يَعْرِفُونَهَا ويَعْرِفُون أخلاقها..
خَرَج خَالِي مِنْ غُرْفَتِه يشتط غَضِباً، فَبَعْد عَوَّدَتْهُ مِنْ صَلَاةِ الْجُمُعَةِ، دَخَلَ غُرْفَتِه عَلَى عَرُوسَه الَّتِي كَانَتْ تَبْكِي، وتَهَدَّد بِذَهَابِهَا لِبَيْتِ أَهْلِهَا، أَنْ لَمْ تُرجِع لها أُمِّي مَا سَرَقَتهُ.. على حد تعبيرها
رفع خَالِي صوتهُ عَلَى أُمِّي، بَعْدَ أَنْ أنكرت، وَأَلْقَتْ عَلَيْهِ لومها، لأنه صدْق زوجته فيما ادَّعت…
وأسمعها وابِلاً مِنَ الْشتائم والألفاظ، قائلاً:
(أنْ أُمِّي لَيْسَت مُلَّاكًا، وكُلَّ البَشَرِ خطَّاؤون وقَام بِتَفْتِيش أغراضنا، وأَغْرَاضها، لكنَّهُ لَمْ يَجِدْ شَيئاً، فأَمَرَ أُمِّي أنْ تَلَمْلَم ثِيَابَهَا، وتَتَّصِل بِوَالِدي وتَخْرُجُ مِنْ الْبَيْتِ دُونَ عَوْدِة، متناسياً أَنَّهُ بَيْتُ جَدَّتِي وأَن لِأُمِّي نصيبها أيضاً
لَيْت أُمِّي تَعَلَّمْت الدَرْسٌ مِن أَكْبَرَهُم، لَيْتَهَا أدركت نِهَايَتِهَا مِنْ الْبِدَايَة
اسْتَمَرَّت أُمِّي فِي وَصَل أخَوَالِي عَدَا أَكْبَرَهُم، رغم أنّهم لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَة ردة فعل تُجَاه أخوهم الْأَكْبَر، أو أي اعْتَرِاضْ يُذكر..
ضَلَّت أمي تَدْعُو لِخَالِي الْأَكْبَر بِالْهِدَايَة والصلح، أَتَذْكُر حِينَمَا جَاءَنَا “أَحْمَد” يَتَحَدَّث عَن خَطِيبَتِه لِأُمِّي دَعَت لهما بالسعادة والهناء وبالذُّرِّيَّةُ الصَّالِحة وقَرَنَت دُعَائَهَا بِالْهِدَايَة “لعُمَر”
تَزَوَّج “أَحْمَدَ” و “حَامِدٍ” فِي يومٍ وَاحِد، بَاعَت أمّي عِقْد جَدَّتِي وجمعت ثَمَنُهُ مَعَ بَعْضِ رَوَاتِبَ أَبِي، لِتُقَام لَيْلَةَ الزِّفَافِ
عروستان شقيقتان لعريسين شَقِيقَيْن
أُعْجِبْت أُمِّي بِأُخْت خَطِيبة أَحْمَد وخِطْبَتِهَا لحامد، أُقيم الزفاف فِي قَاعَةٍ اسْتَأْجَرْتَهَا أُمِّي دُون حُضُورُهَا، فَقَد أعتذرا أَحْمَد و حَامِد لِأُمِّي، وطَلَبًا مِنْهَا عَدَمُ المجيء لَيْلَةَ الزِّفَافِ؛ لِأَنَّ زَوْجَةَ “عمرو” لَا تُرِيدُ رُؤْيَة “أُمِّي” وإنْ حَضَرَتْ أمّي لَن تَحْضُر زوجة “عمرو”، وجَمِيعِنَا يُعْلَمُ أَنَّ عَدَمَ قُدُومِهَا يعني عَدَمُ قُدُوم زَوْجِهَا، وهُو أخاهم الأَكْبَرَ، الذي يَحِلُّ مَحَلَّ أَبِيهِم الرَّاحِل، فِي لَيْلَةٍ كهذهِ هَذَا مَا قَالَهُ “أَحْمَدُ” لأمّي وهُو يقنعها أَلَّا تَأْتِي فَأَرْدَف “حَامِد” قائلاً: غِيَاب “عمرو” سيثير تساؤلات عَدِيدَة لدى أَصْدِقائِه، وأمّي كَانَت مُتَابَعَة لِكُلّ أَيَّام الْمُنَاسَبَةِ مِنْ أَوَّلِهَا، فَلَا بَأْسَ إنْ تنازلت عَلَى هَذِهِ اللَّيْلَةِ لِعمرو وزَوْجَته..
تَزَوَّج “حَامِد” وسَافَر هُو وعروسه لِلْخَارِج لِأَنَّ زَوْجَتَهُ تُرِيد الدِّرَاسَة بِالْخَارِج، هَذَا حلمها مُنْذ الصِّغَر، حَقَّقْته عِنْدَمَا تنازلت أُمِّي عَن حِصَّتَهَا فِي بَيْتِ جَدَّتِي، فَقَدْ اتَّضَحَ لحامد بَعْد زَوَاجُه أنَّ أُمِّي لَا تَحْتَاجُ لِمَال فَهِيَ كَبِيرَةٌ وَلَا تُطْلَبُ مِنْ الْحَيَاةِ شيئاً، لَا أَحْلَام ولَا طموحات، هَكَذَا قَالَ وَهُو يُطْلَبُ مِنْ أُمِّيٍّ أن تتنازل عَن حِصَّتَهَا؛ كَيْ لَا يَبْدُو فَقِيرًا أمَام عَرُوسَه، وأَن يقنعها أَنَّهُ يَسْتَطِيعُ تَلْبِيَة كُلُّ مَا تُرِيدُهُ، المهم سَافَر ولَم نَعْلَم عَنْهُ أَيْ أخْبَارُ، فَهُو مُنْذ سَفَرِه لَم يَتَحَدَّثْ مَعَ أَحَدٍ وَلَا يُرد على اتِّصَال أَحَد
أمّا “أَحْمَد” فَلَم يَقُوم بِزِيَارَة أُمِّي ولَو لَسَّاعَةٌ وَاحِدَةً بَعْدَ زَوَاجُه،
كُنَّا نَزُورُه فِي شُقَّتَه، الَّتي اسْتَأْجَرَهَا مِنْ ابْنِ عَمِّ وَالِدِي، بِأَقَلَّ مِنْ ثَمَنِهَا وكثيراً مَا يَذْهَبُ لغرفته يَنَام، ويَدْخُل لِحُجْرَة الْمَكْتَب بَيْن الْأَوْرَاق والأَقْلام لينهي عَمَلِه، ولَا يَجْلِسُ مَعَنَا بِحُجَّة أَنَّنَا لَسْنَا بِغَرْباء، أَتَذْكُر فِي زيارتنا الرَّابِعَة لَهُ بَعْدَ زَوَاجُه تَصَافَح مَع أُمِّي مُصَافَحَة بَارِدَةٍ، لَا تَلِيقُ بِأُخْت كَأُمِّي، جَلَس بجانبنا لِدَقَائِق مَعْدُودُه ثُمَّ اسْتَأْذَنَ لِلنَّوْم، فَخَرَجَت زَوْجَتِهِ مِنْ الْمَطْبَخِ، بَعْدَمَا أَطْفَأَت نَّارَ الْغَدَاء، إلَّا أَنْ زَوْجَةَ خَالِي أَلْغَت هَذِه الْوَجْبَة، وقَالَت – عِنْدَمَا مَرَّتْ عَلَى الصَّالَّة الَّتِي كُنَّا نَجْلِسُ فِيهَا – “أَنَا كَذَلِكَ أُرِيد الذَّهَاب لِلنَّوْم فَقَد أتعبني الْحَمْل سأضع الْغَدَاء مَتَى اسْتَيْقَظَت”
قَامَت أُمِّي وهِي تحبس دَمْعُه فِي عَيْنِهَا أَمْسَكَت بِيَدِي فشعرت برعشة فِي يَدَيْهَا و خَرَجْنَا مِنْ تِلْكَ الشُّقَّة
أعْتَقَدَ أَنَّ أُمِّي لَن تَعُود لِزِيَارَة “أَحْمَدُ” مَرَّةً أُخْرَى، أَمَّا “خَالِد” فَقَد تَنَاصَف مَعَ أَبِي فِي مَشْرُوعٍ صَغِيرٌ، إلَّا أَنَّهُ انْفَصَلَ عَنْ شَرِكَة أُبَيٍّ؛ بَعْدَ عَامَّين مِن الشراكة، بسبب خلافات كَبِيرَة، مِمَّا جَعَلَهُ لاَ يَأْتِي لبيتنا، وَلَا يَزُور أُمِّي وَلَا يَسْأَلُ عَنْ حَالِهَا حتىٰ..
كَانَ عُمُرِي آنذاك 10 أعوام
والْيَوْمَ وبَعْدَ مُرُورِ عَقْدٍ آخَرَ مِنْ العُمْرِ، أَمْضَيْنَاه مَا بَيْنَ حَزَنِ عَلَى فَقْدِ وَالِدِي، ومتابعة ورعاية لصِحَّة أمي المتدهورة، أَتَت رِسَالَة نصية عَبَّر هَاتِفٌ أُمِّي الْمَحْمُول – كُنْت وقتها أتحدث مَعَ صديقتي مِنْ خِلَالِ هَاتِفٌ أُمِّي – وفجأةً أنسدلت الشَّاشَة بوصول رِسَالَة مِنْ رُقِم غَرِيبٌ، كُتبَ فِيهَا:
“السَّلَامُ عَلَيْكُمْ:
فَاطِمَة أُخْتِنَا الْكَبِيرَة طَمَعًا مِنَّا فِي كَرَمِكَ وَطَيِّبَة قَلْبِك، نُرِيدُ أَنْ تُعْطِينَا فِرْصَة كَي نَرْجِع الْمِيَاهَ إلَى مَجَارِيهَا، لَن يُحْدِثَ اللَّهُ بِنَا خَيْرٍ… أَنَا “عُمَرُ” لَا بِنُون لَدَيّ وَلَا بَنَات، إنَّنِي عَقِيمٌ بِشَكْل أَبَدِي، لم ينفعَ العِلَاج مَعِي، وَلَا حتى الزِرَاعَة ، خَالِد سُجِن وحَامِد طَلَّقَ زَوْجَتَهُ بَعْدَ مَا شَعْر أَنَّهَا تَخَوَّنَه، ومَرَض الشَّكّ سيقوده حَتْمًا لِلْجُنُون، “أَحْمَد” نَحْل جَسَدِه، والسكري قَضَمَ عَظْمَه، لَا يَنَامُ الليل وَلَا النهار، بَعْدَ مَا رَمَاهُ ابْنِه الْعَاقّ بِدَار الْعَجَزة، بَعْدَ وَفَاةِ زَوْجَتِهِ الَّتِي فَتْك بِجَسَدِهَا الْمَرَض
سامحينا قَبْلَ الْمَمَاتِ أَرْجُوك فَنَحْنُ لَا نَسْتَطِيعُ مقاومة عَذَابِ اللَّه دُنْيَا وَآخِرِة وَلَا عَذَاب ضَمَائِرِنَا
سَخِرْت مِنْكُم و شفقت عَلَى حَظّكُم الْغَبِيّ لَن تَأْتِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ بَيْن يَدَيَّ عَنْوَة إنَّهَا تَحْتَاجُ لتصرفي
مِنْ حَذْفِ الرِّسَالَة مُرُورًا بالإعدادات الِاتِّصَالِيَّة بِالهَاتِف إلَى حَظْر الرَّقْم ونِسْيَان الْأَمْر
إيمان الكرغلي – ليبيا
قصة اكثر من راعة وجميلة وحزينة بنفس الوقت😢
إعجابإعجاب