واحد من بين ثمانية ..
والدي يعمل مهندسا ، اخبرني ذات مرة أن بعض عيوب البناء تحمل المبنى بأكمله ، ألتخلص من تلك العيوب قد يؤدي الى سقوط المبنى . و نصحني بأن لا اركز كثيرا علي عيوبي فلربما تكون هي سر وجودي .
في طفولتي كنت وحيدا ، اخاف التجمعات و أخجل من الاختلاط بالناس . و حتى الرياضة التي أحببتها و هي السباحة ، مارستها في وحدة ، كنت أذهب الى البحر أقضي نصف يوم وحيدا الا من زائر ما ، او من جماعة يقضون النهار و قد نقصتهم بعض الحوائج فيأتوا خجلين يطلبونها فأرحب بهم و أعطهم ما يطلبون أن كان عندي و يغادروا .
كنت أتصف بهذه الصفة من دون أخوتي السبع ، كنا ثمانية أولاد أختلف عنهم أختلافا كبيرا ، فهم أجتماعيون جدا و كثيرا ما كانوا يضحكون من بعض تصرفاتي .
حياة الوحدة هذه بلدت مشاعري ، فلم ينبت بقلبي ذرة تعلق واحدة بأي أنسان ، فهم بعيدون جدا أراهم كجماعات في المناسبات و الاعياد و الاحتفالات و المقاهي ، يضحكون و يتنادرون و يترافقون في لحظات الفرح أو يبكون و يحزنون في لحظات الحزن .
في طفولتي المبكرة عانيت من حالة توحد ، مازالت تلقي بظلالها على حياتي ، فأنا مازلت أثلعتم و أخشى ركوب الدرج و صوت الماء القوي ، كثير القلق . مهووسا بالنظافة يثيرني جدا منظر الغبار او العشوائية و عدم الترتيب ، كما أنفعل لصوت الصراخ و تنتابني حالة من الارتعاش كلما شاهدت أثنان يتعاركان او حادث سير او صوت جمهور في مباراة .
كنت أحس بأنني غريب ، لكني أذكر انني كنت مولعا بالقراءة على عكس ما كان متوقعا . كنت أجلس بالساعات أقرا كتبا و مجلات و جرائد ، مارست هوايات يدوية كثيرة و برعت في صناعة بعض الاشياء اليدوية .
وسط هذه الوحدة ، انسان وحيد تعرفت عليه بالصدفة ، فتاة متوسطة الجمال و طيبة ، كانت الوحيدة التي تتودد إلي و تساعدني ، كانت تقدم لي الشكولاتة و أهدتني مرة قبعة شبابية و ساعة يد ، كانت الوحيدة التي أحببتها و اتهيا لرؤيتها ، المشكلة الاساسية كانت أنني أجيد الكتابة ولا أجيد الحديث ، فالكلمات تخرج مني دونما تحكم أو ترابط كما ان عواطفي جياشة لكنني جامد بارد تجعل الطرف الاخر عاجز عن ترجمة المقابل له ، هي تعلم أنني أحبها و تعلم أنني غير قادر عن التعبير عن عواطفي بشكل مباشر ، هي لم تكن تحبني ، هي فقط كانت تحب أن تراني ، فقد كنت وسيما الى حد ما ، نظيفا الى حد البريق ، كانت تتعجب لهذا ( الشيء ) ، استمرت هذه العلاقة العجيبة اربع سنوات و أنتهت بأنتقال عائلتها الى سكن أخر فلم أرها بعدها ولا أعتقد باني سأراها .
أنا الآن في بلد أخر بعيد ، بعيد عن منزلي الاول ، كبر أخوتي و توفي والدي ، و كبرت بدوري ، فاطمة بدورها قد كبرت .
لا أحن لشيء ، الا لتلك الزاوية من الشارع حيث شجرة برسيانة كبيرة و عمود أنارة قديم و شباك حجرتها وهو مفتوح ورؤيتها و هي تبحث عني بعينيها و أنا أقف منتظرا لحظة خروجها .
قد نلتق يوما ما ، من يعلم فذات النجوم التي أراها في وطني معلقة في سماء كل ليلة ، هي ذاتها التي أراها هنا ، القمر نفسه و السحاب الذي يمر مسرعا هو نفسه ، الهواء الذي نتنفسه هو نفسه . أذن فطالما حالة التباث الكوني نفسها تدور و تدور ، فلا ريب أنه ثمة القليل منها قد وصلني و أما لا أعلم .
قد يكون ظلا أو رشفة هواء تنفسته يوما .
من يدري ؟
رجب كريم – المغرب