رائحة الجوع لـ الناجي الحربي – قراءة نقدية بقلم مفتاح الشاعري – ليبيا
( رائحة الجوع .. سهل د الناجي الحربي الممتنع )
بقلم ؛ مفتاح الشاعري
تتفق القصة و الرواية على مبدأ القدرة بفعل بعث إشارات تتفق مرة وتتنافر مرات اخرى مع المحيط ذلك ان هناك ما يعرف بالتميّز المحملّ بجانب الخصوصية للطرح الى جانب التفاعل الذى قد يكون غير مألوف للمتلقي العادي سوي كان هذا المتلقي في صورة شخص او مجتمع او موروث يصعب تفكيك الأساس الذي جبل عليه
, لهذا سميت عوالم القصة والرواية بأنها الرسالات المحمّلة بمشروع من لأسئلة الصريحة والنقد الجريء عبر خط الحدث بثبات فكري لتشّكل بؤرة من التوعية الفكرية والثقافية عبر منهاج طالما كان مقارعاً للسائد عبر صور أدبية ٍ واتجاهات فكرية وهذا يقودنا بالضرورة الى فكرة الإبداع في القصة أو الرواية فهو فى منظوره العام ليس غامضاً حين يحمل خصوصية الغنى والمزاجية المقننة ودوافع التفكير وقد عرّف الابداع على أنه :-
( ذلك الجانب الذي يمس الذوق العام للجمهور ) .. و ربما لهذا سبب وهو ما كان فى جانب المحتوى الدال على إمكانيات معينة كالقدرة على نظم الشعر أو كتابة الرواية أو القصة أو المقالة بتفاعل واقعي مع الحاضر وايضا التعامل مع الماضي بذاكرة قادرة على تنمية الفكرة والتعامل مع الحديث وعدم الوقوف مسلمات جامدة قد لا تكون مسايرة لحداثة العصر بالرغم انها في ستظل ظاهرة إنسانية تميزّت بتعدد الجوانب والظروف والتباين والآراء والمكان والزمان والبيئة ليتجسدّ بمرور المراحل نتاجا قد يمثّل عصراً برمته مشيراً إلى واقع اجتماعي بظروفه وعاداته وتراثه وتقاليده .
ايضاالإبداع هو ما قال عنه انطواز مقدسي :- ( اللعبة الوحيدة التي تحمل سمة جديتها من مسؤولية و تصاعد, وفى حالة الاقتراب من لحظات التدفق فهذا هو التبلّور والتوهّج ) وطالما ان هناك الابداع فسيكون ايضا القاص او الروائي الذي قال عنه ” البير كاموا ” :- ( القاص او الروائي فيها ليس بطل أو أحد الشخوص المفردة فى القصة أو الرواية ولكنه مجموعة شخوص )
ولعلنا بذلك قد قدمنا ما يبرر طرحنا هذا حين نعلن بوجودنا فى ساحة الأديب الليبي ” د. الناجي الحربي ” والذي صدرت له عن مجلس تنمية الإبداع الثقافي مجموعته القصصية ( رائحة الجوع ) وقام مشكوراً بإهدائنا إحدى نسخها ممهورة بإهدائه ( الصديق مفتاح الشاعري .. الواقف دائماً كالرهبان في دير الكلمة والحرف وانتظار الشمس .. أهديك نزقي وجنوني .. لكنّها هي بعضُ منى .. لها نكهة الحب الأول والزواج الأول .. والابن الأول ) ,
و لقد أحصينا محتواها قراءة , وفواصلها وقوف المتأمل .. فكنا في محاولة لاكتشاف ما خلف التل … ولقد رأينا اديبنا الذي كان حاضرا عبر أسطر كانت معدودة لكنها لم تخلوا من أشياءه , ذلك ان الحربي لم تفارقه يوما ملامح من هوية تنازعتها سمتي صدق الواقع ومرارة المعني .. وهو في خطابه لم يفارق المباشرة حين يتطلب الأمر بهدف الطرق على ذاكرتنا في دعوة للتمهّل والترويّ والنطق بما لايخالف ما نعتقد يقول الحربي
( أدخلت يدها في ” حردتها ” وأخرجت عشرة جنيهات .. قالت أمي : خذ هذين وجيب لي دجاجة وشيشة قازوزة وحكية حليب ودلاعة و ردّ الباقي .. شددت على العبارة الأخيرة بقوة ” ردّ الباقي ..” ضحكت في داخل ذاتي وقلت الحاجة لا تعرف أن الأسعار التهبت بشكل لافت .. أمي مازالت تعيش في الزمن الجميل .. زمن الرخص والرخاء .. مازالت تعتقد أن الدجاجة بأربعة دنانير .. وأن زجاجة البيبسي بدينار.. وأن علبه الحليب بنصف دينار .. وأن الدلاعة الواحدة بدينار .. أمي نسيت أن طبق البيض أصبح بثلاثة عشرة دينار .. طبق البيض كان يستهلك في أكثر من أربع وجبات .. مسلوق .. ومقلي .. وشكشوكة التي تعتبر وجبة كاملة .. البيوت الآن بدأت تتراجع عن بعض الوجبات .. كانت الوجبات ست وجبات .. إفطار الصباح المتكون من حليب وخبز .. ثم فطور الضحى المتكون من تن وأجبان وزيتون وأحيانًا شرموله .. بعد ذلك الغداء الدسم في العادة ولابد وأن يكون باللحم .. والعصرية المتكونة من شقاشق .. ثم العشاء الخفيف .. وأخيرًا السحور في آخر الليل كل فرد في الأسرة حسب ذوقه كما لو أن بنده قد اقتحمت المطبخ .. .. الآن بعض الأسر تختصر في الوجبات تجمع بين العشاء والغداء بتأخير موعد الغداء .. وألغت العصرية والسحور إجباريًا .. وتنازلت عن إفطار الصباح اقتصادًا في المصروفات .. بعض العائلات ألغت نهائيًا مادة اللحم .. أطفالهم لا يعرفون اللحوم البيضاء ولا الحمراء ولا حتى البدائل من البقوليات .. نظرًا لموجة الغلاء الفاحش لكل شيء .. والنتيجة جيل خامل وضعيف ويعاني من أمراض عديدة (
وعودة …. فإن د. الناجي الحربي كانت قد صدرت له مجموعة قصصية بعنوان ( رائحة الجوع ) احتوت على (24) قصة قصيرة , كادت أن تتفق على طبيعة الواقعية وان كانت من الأشياء التي نتجاهل وجودها في زوايا أنفسنا نسياً أو تناسي .. تلك المجموعة حملت تبيان محسوب من القاص في صفة مثلّت التناقض الهائل في النفس البشرية من خلال تكثيف الحدث هذا الجانب الذى طالما احتاج لأدوات المبتكر للوصول به الى المنتهي المنشود .
ففي قصته الأول ( الوطن ) كان المستهل الجميل الذي جعله – الحربي – مفتتحا لمجموعته.. وفي سياق الحدث تتضح هذه النقلة من فراغ ورق اللعب – إلى الشهادة .. ففي الوطن أراد القاص أن يجلعنا أمام حقيقة الإنسان السامية من خلال رسالة غير مواربة .. (سيطر الصمت على الحاضرين عندما عرفوا ان الرجل تطّوع للدفاع عن الوطن وسقط شهيداً .. وأدركوا أن الوطن أسمى من لعب الورق )
( الكابوس ) .. القصة الثانية في المجموعة مارس فيها لعبة الاسترسال في واقعة السرد إلى نقطة الحلم بدخول محبب .. و رهبة الحياة ذاتها .. ( مدت يدها.. ومسحت جبينه برفق .. ناولته كوب ماء .. وبارتجاف دلقه إلى جوفه : استغفر الله ” قال باطمئنان ..و ألقى برأسه على الوسادة ينشد النوم ثانية ).
تدفق قلب الرجل بأحلامه التي تصطدم غالباً بفقد الأشياء التي لا تعوض .. والعودة في محاولة لإيجاد القواعد الأولى من السعادة المفقودة كانت هذه هي الرسالة في ( لقاء .. ذات خريف غاضب )
القصة الثالثة في المجموعة . يداعب ما رسخ في أذهاننا الأولى .. يزيح غبار سنوات الكهولة .. يرجعنا إلى حكايات الجدة .. والعفريتة .. والبناء الأول للطفل في ظل الحكاية التي أبت أن تغادر مكمنها وكأني به يبعث برسالة تربوية من خلال القصة الخامسة ( العفريتة ) فيها دعوة للنظر في بناء عقل الطفولة ..
وتصطدم تخيلات الغنى بقرقعة فناجين النادل معلنا عن انتهاء الأحلام وتناثرها حتى انه لم يتبقى ما يسدد به ثمن القهوة ..وكان هناك التضاريس للنقيضان المتلازمين توازياً .. الغنى والفقر .. حكاية تملؤها مرارة أشيائنا المؤجلة كانت القصة السابعة ( فقر ) .
القصة الثامنة مارس القاص لعبة التصادم الواقعي في الحدث .. حتى انه بأظافره أراد أن يرسم حدودٍ لعدم جدوى الأحلام ( وتعرضت أحلامه لأكبر عملية سطو عرفها العشق ثم سرقوا منه الغنى وتركوا له القناعة فكان الفقر نصيبه حتى آخر آهة من أنين أعماقه ورغم السنوات العجاف فقد واصل التنفس بصعوبة رفقة الجوع والظمأ والحرمان من حياة هادئة ) .
رائحة الجوع .. هي اداة معلنة لرفض الفقر المصطنع الذي ترفضه الروح البشرية , ( كلما تقدم لجهة ما تغمره وعود الأمل لكن البطون المترهلة على مقاعد دوارة تصدمه بالرفض والأنامل الناعمة تنهره معلنة عن انتهاء المقابلة فالأبواب سدت في وجهه بأحكام)
رائحة الجوع لـ الناجي الحربي – قراءة نقدية بقلم مفتاح الشاعري – ليبيا