السقــوط إلى الأعــلى ,,
ها أنا أسقط ,
نعم ، ومن علو 7 طوابق حيث أسكن ,
كم هى طويلة الطريق , كنت أظن اننى لن أطير ,
لكننى فعلا أطير , لأول مرة فى حياتى أحس بشعور الطيران , إنها الحرية , وأخيرا .
لماذا أسقط ؟ أو بالأحرى لماذا أطير ؟
سؤال أسمعه فى داخلكم الآن , سأجيبكم قبل أن أصل إلى الأسفل .
الأسفل ! وهل كنت الا فى الأسفل دائما ,
أنا فى حالة إرتقاء الآن ــ والآن فقط ــ إلى الأعلى .
أنا الطفلة التي لم تتعرف إلى معنى الطفولة , تلك التي وُلدت كبيرة , فلم أكن أسمع الا جملة
” تحسابى روحك صغيرة ” ,
الطفلة المسؤولة عن كل كبيرة وصغيرة ,
إن بكى أحد أخوتى فأين أنا ؟ وإن ضاع شئ فأين أنا ؟ وإن جاء زائر فأين أنا ؟ وإن مرض أحدهم فأين أنا ؟
أنا الكبرى فلابد أن أرتدى ثيابا أكبر من حجم جسمى , وعقلى .
كبرت قبل أن أفهم معنى أن أكون صغيرة ,
قبل أن أتعرف على ملامح جسدى لأنه من العيب أن أسأل فأنا كبيرة ,
قبل أن أجيد فن الكلام لأنه يجب ألا اتلعثم فأنا كبيرة ,
قبل أن أخطئ وأصيب فيجب ألا أخطئ لأنى كبيرة
مراهقتى , وما المراهقة الا أخطاء صغيرة نقع فيها لنتلمس ملامح الدروب الصحيحة ونسير فيها دون أخطار تُذكر .
لم أعشها , إنتقلت من مرحلة الفطام إلى مرحلة الشباب مباشرة ,
فطاما لم أتذوق فيه طعم حليب الثدى , لأن أمى كانت صغيرة كبيرة ” مثلى تماما ” لم تُجيد إرضاعى , ففطمتنى .
مرحلة الفطام كانت فقط مسمى لتجهيزى لمرحلة الشباب , وكانت النتيجة بلوغا كاذبا قبل البلوغ وشبابا زائفا قبل الشباب .
دراستى لم أُكملها ” البنت ليها الراجل والكوجينة وياسرها ” .
لم أهتم كثيرا بالأمر , فلا وقت لدى وورائى مهام جليلة فى البيت تغنينى عن الدراسة ومتاعبها .
” بوك أعطاك ” جملة طرقت طبلة أذنى , وقفت قليلا لأفهم معناها ثم إنصرفت لأكمل واجباتى تجاه أخوتى ,
لم أفكر فيها لأننى لم أعتد التفكير طويلا فى قراراتهم , أنفذ فقط , هذا ماتعلمته .
وجدت كل شئ جاهزا لحفلة تأبينى , آآه أقصد حفلة فرحهم بى كعروس ,
جهزوا كل شئ إلا أنا , لم يجهزنى أحد لأكون ” زوجة ” فأنا كبيرة , ويجب أن أعرف كل شئ عن كل شئ .
مددت جسدى لمن أزالت شعرا غير مرغوب فيه ولوضع أصباغا يرغبون فيها .
ألبسونى ثوبا يشبه الكفن لونا ومعنى , وأصدروا أصواتا غريبة منتشيين بها ,
هى أصوات لامعنى لها ولا فرق بينها وبين العويل , يقولون إنها زغاريد .
أصواتا كتلك التي يطلقونها على تابوت الشهيد , ولا فرق ,
فقد كنت الشهيدة .
شهيدة مجتمع إعتبرنى مجرد لعبة لأحدهم يتلهى بها وعندما يسأمها يرميها لمن يكمل اللعب حتى يتم إستهلاكها كليا , ليأتوا بغيرها .
نعم , فى بيته كنت لعبة صغيرة جميلة يلهو بها ليلا وينبذها نهارا , لتقوم بكل تلك الواجبات التي قامت بها منذ كانت كبيرة .
عشت نفس الحياة تقريبا مع الفارق الليلى , عائلته الكبيرة التي تسكن قريبا منى ومن الصباح حتى المساء معهم أرعى مريضهم وأطعم جائعهم وأستقبل ضيفهم , بصمت وخشوع أتقنته وتفننت فيه .
الفارق الوحيد بين هنا وهناك أننى أنجبت , كزوجة كبيرة يجب أن أحمل وأنجب قبل مرور السنة والا ,
يالهول ماسيحدث .
طفلتان توأمتان جاءتا من بذرة زُرعت داخلى غصبا عنى , لم أحبهما ولم أكرههما
ولم أرضعهما , فأنا كأمى لا أُجيد فن الإرضاع .
وجلست طويلا أمامهما متساءلة , من منكما الكبرى ؟
أتيتما توأمتان لتحملا هذا اللقب مناصفة , حظكما أفضل منى .
أه لم أخبركم , بعد عملية الولادة قيل لى أنه حدث تمزق فى رحمى ولن أُنجب مرة أخرى , رحمى صغير جدا ليكون كافيا لحمل توأمين , فإحتج وتمزق .
لم أهتم , لكنه غضب جدا وتحول غضبه إلى جنون بالتدريج ,
” إنتى معاش إتجيبى ” جملة كررها على مسامعى كلما رآنى وأنا أنظر إليه كالبلهاء , وليكن وماذا بعد ؟
مابعد , أنه تزوج لينجب ولدا , وليكن وماذا بعد ؟
مابعد , أنه هجرنى ولم يعد يتذكرنى ولا إبنتيه , ليكن , وماذا بعد ؟
أصرت زوجته ألا يكون فى حياتها ضرة , وليكن وماذا بعد ؟
مابعد , طلقنى , وليكن , وماذا بعد ؟
” إنتى صغيرة باش تقعدى بروحك فى الحوش ” !!!!
صغيرة ! وأخيرا أصبحت صغيرة , وأخيرا سمعت هذه الكلمة الجميلة ,
أخيرا أنا صغيرة بعد أن كنت كبيرة , ولكن , ماذا بعد ؟
” قاعدة صغيرة ــ مصرين ــ تعطيه بناويته وتولى لحوش بوك وتتزوجى ,
سيورك تلقى راجل عقيم والا هجال وعنده صغار تربيهم معاه , امشيتى بروحك تروحى بروحك , ماعندناش بنات يقعدو هججل على فروخ الناس ”
لم أستوعب تلك الكلمات الا عندما سمعت طرقا على الباب , وأنا جالسة وسطهم أضم بناتى إلى صدرى , ودخل هو ,
كم كان متوحشا وهو ينتزعهم منى بقوة وكم كانو قساة وهم يشدوننى منهم بقوة وكم أنا ضعيفة بينهم !
لم أصرخ ولم أنتحب , بل ولم أتكلم ,
هل سأعود إليهم لأكون كبيرة مرة أخرى ولأمدد جسمى لإزالة الشعر ووضع الأصباغ مرة أخرى , ولأرتدى الكفن وأسمع العويل مرة أخرى , هل سأتحمل كل ذلك مرة أخرى !!
ألتفتت إلى الشباك المفتوح خلفى , وقفزت ,
وقبل أن أصل إلى الأعلى سأخبركم شيئا نسيت أن أخبركم إياه ,
عمرى الآن 16 سنة وعمره 35 سنة , ومتزوجة منذ سنتين ,
ألست صغيرة ! كرروها لأسمعها , إنها تسعدنى يا من تتلهون باللعب بنا .
وها قد وصلت , سلاما لروحى .
…………………………………….
وفى اول كتاباتى واحدى قصص مجموعتى
” الفارق لحظة ” تقبلوا اطيب تحياتى .. سراب
ليلى المصراتي – ليبيا
