قصصٌ قصيرةٌ جـــدّاً
خـالد خميس السَّحـاتي/ كاتب وباحث وقاص ليبي
ذاكـــرةٌ
كانت ذاكرتُهُ تُؤنِسُهُ فِي وحدته، وتَمْلأُ عَلَيْهِ حَيَاتَهُ الرَّتِيبَةَ، وتجلبُ لهُ مشاهد وصُور وأصوات أناسٍ يُحبُّهُم كانُوا معهُ يوماً، تفاصيلُ البيت والمكتب الفوضويِّ والمطبخ والحديقة كُلُّهَا مَحْفُورَةٌ في ذَاكِرَتِهِ..، وعـندما وَصَلَ إلى أعتاب السَّبْعِينَ نَزَلَ فِي محطَّة فَقْدِ تِلْكَ التَّفَاصِيلِ، فأصبح يَعِيشُ بِلاَ دِفْءٍ ولا مَاضٍ.. اغْتِرَابٌ عن كُـلٍّ شيءٍ، ورحيـلٌ قسـريٌّ لذكريات مضت بلا عودةٍ، فأصبح يبكي كُـلَّ يَوْمٍ، وينتظـرُ المحطَّة الأخيرة..
طَيـْــفٌ:
في ظهيرة ذلك اليوم المُبهج كان يسيرُ في سُوق المدينة، ويقُومُ كعادته في أوَّل كُلِّ أسبُوعٍ بالتَّسوُّق لأُسرتـه، بخُطواتٍ مُتثاقلةٍ يتنقلُ بين المتاجر، ويقرأ الورقة التي كتبت لهُ أمُّهُ فيها لوازم البيت، اشترى كُلَّ شيءٍ، تبقى فقط مسبحةٌ جديدةٌ لأُمِّه بعد أن انفرط عقدُ مسبحتها القديمة، ذات اللون الأزرق الدَّاكِنِ، “لا تعُدْ من غير واحدةٍ أسبِّحُ بها، بعد أنْ قطع ابنُ أختك الصغير مسبحتي القديمة”، قـالت لهُ أمُّهُ.. وجد المحل الذي يبيعُها، دخل بسُرعةٍ، مرَّت من أمامه فتاة يعرفُها جيِّداً، سقطت الأكياسُ من يده، لحق الفتاة، نزل من سلم السوق، اتَّجه إلى بوَّابة الخُرُوج، اختفت تلك الفتاة فجأة، بحث عنها جيدا، سأل رجل الأمن الذي على الباب، لا أثر لها، جلس مهمُوماً.. إنه طيفُ أول فتاة أحبها في حياته، (زاره وسلم عليه)، ومن دهشته وارتباك مشاعره نسي أن روحها غادرت الدنيا قبل عشرين عـامـا!.. آهٍ.. مـا الذي حَدَثَ لِي؟، مَنْ مَضَى لا يَعُـودُ، سامحيني، فمازلتُ أنتظرُكِ، رغم الرَّحيل، وفي النفس وجــعٌ لا يمُـوتُ..
مشـوارُ العُـمـر:
قال لها: أكرهُـك، لمْ تستغربْ قولهُ، لكنَّها صمتت بُرهةً، ثمَّ قالت لهُ: أَغْمِضْ عَيْنَيْكَ دَقِيقَةً وَاحِدَةً. أَغْمَضَ عَيْنَيْهِ عَلَى مَضَـضٍ، قَفَزَتْ أَمَامَهُ مَشَاهِـدُ حَيَاتِهِ مَعَهَا، بِكُـلِّ تَفَاصِيلِهَـا. ابْتَسَـمَ، ثُمَّ قَـالَ: الحَمْـدُ للهِ عَلَى كُـلِّ حَـالٍ، سَـامِحِينِي، وَلْنُكْمِـلْ مـشْـوَارَ عُمْـرِنَا إِلَى النِّهَــايَـةِ، رغْـمَ كُــلِّ شَيْءٍ.
أطـــــــلالٌ:
طرق الباب برفق، لم يجد جوابا، اكتشف أن الباب غير محكم الإغلاق، قــرر أن يدخل بخطــوات مترددة، صعد سلم الحديقة المؤدي إلى الباب الخشبي للبيت، وجـده مفتُوحاً، لا يُوجدُ أحـدٌ هُـنا، كان هذا البيتُ يوماً يَسْتَوْلِي على مكانةٍ أثيرةٍ في قلبه، تحوَّلت جُدرانُ البيت إلى أطلالٍ مُخبَّأةٍ في ذاكرته، تحملُ كُلٌّ منها قصَّة لمْ تُرْوَى لأحدٍ بعـدُ، عن طفولته وشبابه، عن عذابات عُمرٍ مضى، ولحظـات نزقٍ ذهبت ولن تعُـود، سلَّم على أرواح أهـل البيت جميعاً، قـرأ لهم فاتحة الكتاب، “اقبعُـوا فيه بلا حياةٍ، فقد أخذتُ منهُ كُلَّ ذكرياتي، وحزمتُ أمتعتي مُنذُ زمنٍ، ولم أسـأل أحداً، فعليكُم سـلامُ الله، إلى أنْ تلتقي الأرواحُ.. وتتعـانق شـواهـدُ القبُـور”..
هُــرُوبٌ
خُطُوبَةٌ تقليديَّةٌ، ومراسمُ زفافٍ نمطيَّةٍ، علت الزَّغاريدُ البَيْتَ، طارت أُمُّهُ فَرَحاً بِعَرُوسَتِهِ الجَمِيلَةِ، بدأ حياته الزَّوْجِيَّةَ بِلاَ تَرْتِيبٍ، لم يكُن مُستعدّاً لنقلةٍ كَهَذِهِ مِنْ قَبْلُ، انهمرت المسؤُوليَّاتُ عليه كزخَّات مَطَرٍ بِلاَ توقُّفٍ، أنجبت زوجتُهُ أوَّل مولُودٍ لهُمَا، استقبلهُ بشكلٍ عاديٍّ، استغرب الجميعُ، بحثُوا عنه في كُلِّ مَكَانٍ، لمْ يجدُوهُ، وسط صُراخ طفله المُتواصل، ودُمُوع زوجته المُنسدلة على خدَّيْهَا بِهُـدُوءٍ ثَائِرٍ.
سُـــــؤالٌ؟
سألتني أمِّي ذات مرَّة عـن “الحُـزن”: ما كُلُّ هذا الحُزن الذي تحملُهُ يا ولدي؟، فأجبتُها دُون تفكيرٍ: صديقٌ قديمٌ زارني مُدَّة ثمَّ غــادر!….
فـرحت أمِّي تلك الليلة، ونامـت سعـيدةً.
فـــرارٌ
حظر إلى مكتبه مُسرعاً، لمْ يتناول حتى طعام فطُوره، ولمْ يُحكم رَبْطَ خُيُوط حذائه الرَّماديِّ البالي، وحين صعد سُلَّم الدرج المُوصل إلى مكتبه نظر إلى نفسه صُدفةً في مرآة مُعتمة قديمة كانت هُناك، فتوقف بُرهةً، شعر فيها لأوَّل مرَّةٍ أنَّهُ بشرٌ!، أحْكَمَ رَبْطَ خُيُوط الحِذَاءِ، ومزَّق قناع الزَّيف الذي يرتديه، ثُمَّ قدَّم استقالته، وفـرَّ إلى زنبقته الحزينة، ليُكمـل معهـا مشـوار الحياة القصير..
*رَحِيــلٌ:
كانت أمِّي تتفقَّـدُ غُـرفتي الصَّغيرة كلَّ يوم، تلملمُ أوراقي المُبعثرة، تُنظِّفُ مكتبي المُزدحم بالفـوضى، ترتبُ سريري المُهترأ، وعندما أُعُـودُ من المدرسة أَجدُ كلَّ شَيءٍ هُنا على ما يُرامُ، وأبدأُ في مُسلسل نزقي المُمتعِ من جدِيدٍ، في ذلك اليوم لَم أُصدِّق ما حدث، فـوضى غُرفتي على حالها، كُلُّ تفاصيلي الطفُوليَّةِ كما هي، دُهشـتُ..، حَزِنْتُ..، وأَدْرَكْتُ أنَّ أُمِّي رحلت عن البيت، لكنَّ حنَانها المُتدفِّقِ بلا نهايةٍ لَن يُغادرَ قلبي أبداً.
* حَبْكَـةٌ:
بدأ أخيراً في كتابة أقصُوصته الجديدة، لم يختر لَهَا اسماً بعدُ، أخذ يرسمُ خيُوطها بعنايةٍ، بَدَتْ حَبْكَتُها الدَّرامِيَّةُ مُحْكَمَةَ التعقيد والاختزال، بياضُ الورقة أَمام قلمه القَديم يُغـري بمزيدٍ من الانغماس في بُحُور الكتابة اللامُنتهيـة، الشخصيَّاتُ والتفاصيلُ تلتمعُ في ذاكرته المُترعة بالتناقُض، تُومضُ بشدَّةٍ، فيكتُبُ قليلاً ثم يغلبهُ النعاسُ فيتوقفُ مُستسلماً لسُلطـان النـوم.
* تحـايـلٌ:
يتحايلُ على أَلَـمِهِ القَـاسِي، يتخذُ مِنَ الصَّبر المُرِّ ترياقاً للشِّفـاء، رغـم أنَّ الطبيب أخبرهُ أنَّهُ بَاتَ يُعاني من كبر السِّـنِّ وأعْـرَاضِ الهـرم، بيته الفسيحُ أصبح من بُرُودة الوحدة ضيِّقاً عليه، قال لأبنائه الثلاثة عندما زارُوهُ بعد طُـول غيـابٍ: “أريدُ أنْ أراكُم كـلَّ يومٍ”، وَعَـدُوهُ بِذَلِكَ، نظر بعضُهُم إلى بعضٍ بخُبثٍ مُستترٍ خلف ابتساماتهم الكاذبة، صباح اليوم التالي استيقظ من نومه على صوت مُمرِّضةٍ ثلاثينيَّةٍ جميلةٍ في دار المُسنِّينَ تقُـولُ لهُ: “تفضَّل الإفطـارَ يا عـم!”، تفاجـأ من هَـوْلِ الصَّـدْمَةِ، ثمَّ أدرك مُتأخِّـراً أنَّ أبنائه فعـلُوا ذلك، ووفـوا بوعـدهـم لهُ!.
فـــرارٌ
حظر إلى مكتبه مُسرعاً، لمْ يتناول حتى طعام فطُوره، ولمْ يُحكم رَبْطَ خُيُوط حذائه الرَّماديِّ البالي، وحين صعد سُلَّم الدرج المُوصل إلى مكتبه نظر إلى نفسه صُدفةً في مرآة مُعتمة قديمة كانت هُناك، فتوقف بُرهةً، شعر فيها لأوَّل مرَّةٍ أنَّهُ بشرٌ!، أحْكَمَ رَبْطَ خُيُوط الحِذَاءِ، ومزَّق قناع الزَّيف الذي يرتديه، ثُمَّ قدَّم استقالته، وفـرَّ إلى زنبقته الحزينة، ليُكمـل معهـا مشـوار الحياة القصير..