المشاركة الفائزة بالترتيب الثالث بمسابقة القصة القصيرة التي اقيمت بمجموعة منبر الأدب الأربعاء 18/11
العائد إلى موته ..
كان أثر الكدمات على رأسه باديا للعيان. ثم إنها رأت كل شيء بأم عينها.كان ثغره يفتر عن ابتسامة تعكس طهر قلبه و حسن نواياه. رجل بهي الطلعة، جميل الخَلق و الخُلق. و كانت ملامحهم مقفرة، لا تشي بشيء، لا حزن يطمئن روحك و لا قبح يزرع الشك في أوصالك و يجعل العلاقة تحت مضمار الحذر. كانت تطالعهم خلسة و إحساس دفين يخبرها أن خطرا محدقا يتربصهُ.
لقد رأته يصافحهمْ بكف الود و سمعته يناشدهم السلام و يعاهدهم الأمان. هم بادروا و هو وفى ..ولكنهم غدروا في مكيدة لم تخطر على باله… ضربة تليها الأخرى.. قاوم كثيرا و لكنه تداعى فجأة بعد أن خانه جسده المنهك. لا سواعده تستجيب لرغبته في الدفاع عن نفسه و لا أرجله تقوى على حمل جسده المثقل بالخيبة و الخذلان.
تمايل يمنة و يسرة ككرة تتقاذفها أيديهم الملطخة بدم الخديعة و تركلها أرجلهم الموسومة بسموم الغدر. علت زفرات الوجع و ذُرفت دموع الأسى. تعالت على إثرها ضحكاتهم.. كان صرحا شامخا و هوى كظلام هبط على تضاريس المدينة فجأة مكحلا أهداب المساء بحلكة الزيف و قفار الآه.
كان الوجع يتخبطَهُ حتى أنّه لم يقو على النهوض. و كأنّ الأرض احتضنته في عناق سرمديّ تأسفا على حاله. تحسّس جرحه.. يبدو أنه غائر في الروح.. تذكر والدته. وحدها كانت تسهر على راحته كلما جنّ الليل و أسدل الأنين جلابيبه. وحدها كانت تضمد جراحه و تحتضن كيانه المغترب بلا ضجر. دارت اسطوانة الزمن و تراقصت صور الصبا في مخيلته. تذكر يوم سقط على الأرض مغشيا عليه من فرط الإرهاق. رآها تركض نحوه و الفزع يلازم محيّاها. ابتسم للذكريات حتى تراء له طيفها مقبلا بذات الملامح كأن القلق لم يفارق وجهها الصبوح. رفع يده محاولا أن يتمسك بجلبابها كما كان يفعل أيام الصبا.. ولكنها طيف قُدَّ من وجع..محض سراب..
بكى على الحاضر و الماضي يهيج أحزانه. كأن جرحا واحدا لا يكفيه.. تخبطه الوجع جسدا و روحا حتى استسلم لغيبوبة دامت أياما عديدة و أشهرا مديدة. لزم الفراش طويلا و لزموا حراسته أكثر.. كانوا يراقبونه في كل شهيق و زفير. يتابعون حركاته و يتحسسون نبضه فإذا رام قلبه العودة إلى الحياة، أطلقوا إشارات الخطر “إنها الصحوة”. حينها، تأتيهم التعليمات بتسديد ضربات أخر تعيده إلى الغفوات.
وحيدٌ متأرجح بين الغفوة والصحوة.. ممدّدٌ على فراش قد يكون فيصله بين موت و حياة. ملقى بين أيادي ممرضات يتداولن على جسده المنهك بالحقن..
“حادث سير مريع” أو هكذا أسفرت التحقيقات. قرأت نادرة الخبر بكل أسى و لوعة. لابد أن جنودا مأجورين وراء هذا الخبر! فلا هو سكير- كما قالوا- و لا متورط في عمليات إرهابية و لا الحادث حادث سير.. وحدها كانت تعرف الحقيقة و لكنها “شاهدة خرساء”..
آلمتها كثيرا هذه التشويهات التي لحقت به..هو الذي لا يعرف غير طعم القهوة و هو الذي ما حمل في قلبه غيضا على أحد.
دارت رحى الزمن دورة كاملة و استفاق نادر من غيبوبته ليعود كسالف عهده، مفتش عنه، لائذ بالفرار..
ضباب كثيف يلف وجه المدينة نهارا يساعده على التخفي و مواصلة السير. سبقه الحراس إلى باب بيته، فقرر أن يغير دربه. شرع في الركض غير عابىء بجرحه النازف.
عيون عقيمة أثقلها حقد دفين، تجوب الشوارع، تصول و تجول..توزع على المارة ابتسامات مخادعة.. تبحث عن فريسة سهلة قد توصلها إلى مبتغاها. تُشعل نار الفتنة و تنتشي دخانها الخانق. تزرع على الأرصفة إثما و تدسُّ في الأزقة ضجرا و في جوف الليل دبيب قلق. تبحث عنه هنا و هناك.. تزرع الوشاة في كل مكان قد يرتاده.. الطريق المؤدية إلى المسجد و البيت..
انتشر خبر فراره و لكن أحدا لم يأت على ذكره. أليس من الغريب ألا يعود إلى بيته و ألا يأتي إلى مكانه المفضل كما جرت عادته؟
جالوا كل الأنحاء فتشوا كل البيوت و الدكاكين و حتى الخرابات.. أين هو؟ كيف نجح في الهرب؟ و كيف أجاد التخفي؟
ظل الجميع في حيرة من أمرهم، الأهل و الأصحاب و الجيران بل و الغرباء الذين لا يعرفونه… وحدها كانت تعرف مكانه.. أخبرها حدسها أنه شقَّ طريقه إلى مقبرة البلدة المجاورة حيث ترقد أمه بسلام. تبعته لا ظلام يخيفها ، لا رقيب، لا وحشة طريق و لا عزلة مقيتة.. وحده هاجس الفقد كان يعبث بما تبقى من صفوها. تتسارع نبضات قلبها كلما اقتربت و تزيدها الهواجس حرقة.
-“انتظرني! أرجوك لا ترحل!” نادته من أعماق قلبها ” سأقتلع خناجر الصمت من حنجرتي ، سأصرخ في وجه العالم سأكشف وجه الحقيقة و أخبرهم أنك بريء و ذنبك أنا..
-” كفاك هراءً” يجيبها نادر بصوت خافت “لا تكرري هذا الكلام مرة أخرى. هذا قدري… ”
– ” أرجوك لا ترحل!” و انتبهت فجأة أنها تتكلم.. لقد استعادت صوتها بعد سني عذاب.. عادت الحروف إلى معجمها و عاد الكلام إلى الكلام.. فرحت لحظات و استبشرت و لكنها سرعان ما تذكرت أنها لم تعد في حاجة إلى الكلام.. لقد فارق أخوها الحياة و فارقتها هي منذ زمن و لم يتبقى منها غير جسد مهترء لم يعد صالحا للحياة…
شاتيلا يعقوبي – تونس