المشاركة الفائزة بالترتيب الرابع بمسابقة القصة القصيرة التي اقيمت بمجموعة منبر الأدب

المشاركة الفائزة بالترتيب الرابع بمسابقة القصة القصيرة التي اقيمت بمجموعة منبر الأدب الأربعاء 18/11

الكابوس ..

عند الأصيل تنكسر أشعّة شمس الشّتاء على الجدران و النّوافذ الغربيّة في غنج .. تُلوِّنها ببرتقاليّ شفّاف ساحر .. من نافذة غرفتي تَمْرُقُ سيوفُ الدّفء و الضّياء تُغريني بقيلولة قصيرة في يوم شتائيّ بردُه لاسعٌ و أنا المُرْهَقَةُ المُتْعَبَةُ حدّ التّرنّحِ … كَمْ أرغبُ في إراحة جسمي المنهك و أعصابي المضغوطة .. و حين عزمتُ على تنفيذ ما فكّرت فيه سطعتْ فكرةٌ جديدة ٌ عكّرت مزاجي و أفسدت مبتغاي .. شعرتُ بالاستياء ..لابدّ من خَرْجَةٍ ضروريّةٍ إلى مركز البريد لقضاء شأن مهمّ ..

في القاعة الكبيرة يجلس عدد من المنتظرين في صمت و هدوء .. اقتطعتُ تذكرةً ، جلستُ متهالكةً على مقعد شاغر أنتظر دوري مثلهم…

بين الفينة و الأخرى يقطع الصّمتَ صوتٌ نسائيٌّ مُسجّل على الحاسوب ينادي الرّقمَ الموالي لخدمة صاحبه .. حوّلتُ نظري بين التّذكرة الّتي بين يديّ و بين لوحة الأرقام الإلكترونيّة المعلَّقة فوجدت أمامي أعدادا و حرفاءَ كُثُرًا .. تنهّدتُ و فكّرتُ أن أسلّيَ نفسي بمراقبة ما حولي ..

أغلب الموجودين يتصفّحون هواتفهم الجوّالة في وجوم و أحيانا يبتسمون .. شيخ يداعب مِسبحته و يتمتم مسبِّحا .. امرأة تنظر بتوتّر إلى موظَّفة البريد التي توقّفتْ عن إنجاز عملها لتثرثر بصوت مسموع مع شخص ما عبر هاتفها النّقّال .. لم أُصْغِ إلى حديثها و لكن انتبهتُ إليها تُقهقه بلا رغبة حقيقيّة في الضّحك ..

أدركني النّعاس ..أصابني خدرٌ لذيذ ، انكمشتُ قليلا و تذكّرت رغبتي في النّوم …هوّنتُ الأمر على نفسي و قلت لها : “صبرا ، قريبا نعود إلى المنزل و سننعم بنوْمَةٍ هانئة ” …

واجهتني لوحة رقميّة كبيرة لأسعار العملات الاجنبيّة بالدّينار التّونسيّ .. تشتعل الأرقامُ حمراءَ مضيئةً .. تدهورٌ مرعبٌ لعُمْلَتِنَا في زمن قصير .. في هذه اللّوحة رأيت اليورو و الدّولار يَجْلِدان الدّينارَ و كلّ العملات العربيّة ثمّ يضحكان ساخريْن .. على هذه اللّوحة المعلّقة يمكن ان تقرأ الواقع البائس .. وجعٌ قديمٌ تململ في قلبي ..

تبّا ! لا أحتاج إلى مزيد من الأحزان الّتي تنخرني ..

ثقُل رأسي ، غالبتُ الوَسَنَ .. جفنايا يتقاربان بطريقة مغناطيسيّة ، تذكّرتُ كيف كان القطّ ” توم ” في الصّور المتحرِّكة يغرس ما يشبه عود ثقاب في جفنه الأسفل و يمدّه نحو الأعلى و هو يقارع النّومَ .. و من أين لي بمثل صنيعه في موقف لا أحد يحسدني عليه أو يغبطني عليه ؟

تراقصتْ الوجوه أمامي و أصبحت ضبابيّة ..حرّكتُ رأسي نحو الجهة الأخرى حيث رأيتُ لوحةً بلاستيكيّة مستطيلةً بيضاءَ كُتِبَ عليها بالأحمر ” النّوم ممنوع ” .. اندهشت و قلت في نفسي بحنق : ” النّوم ممنوع ؟؟؟!!!

هل وصلت الجرأةُ بهذه الدّولة ان تمنع النّومَ عن النّاس بعد أن منعتْ عنهم أشياءَ أخرى ضروريّة ؟”

وقفت ، ثم اعتليتُ الكرسيّ، و طفقت أخطب في الحاضرين :

– يا سادة ! النّوم مجّانيّ ، لا يُباع و لا يُشترى.. الحوت الكبير يُصادر رغباتِكم و يبتلع كل جميلٍ موجودٍ أو منشودٍ..يلتهم حياتكم و انتم تنظرون إليه يقضم أجزاء منكم و لا تتحرّكون..

النّوم ممنوع؟!!

اتركوا النّاس ينامون ليحلموا ، ليهربوا من واقعهم المأزوم .. اتركوهم يمارسون حقّ النّوم بحرّيّة .. اريد ان أنام.. فقط أنام.. لن أزعج أحدا.. أعدكم أنّ نومي لن يضرّكم.. و لن ينفعكم أيضا.. فقط أريد ان أتجدّدٓ حين أنام..

أتدرون لماذا أريد أن أنام ؟ لأنّ أرَقًا و سُهادا لازمني طوال اللّيلتين الماضيتين .. لم أنم .. حين تمتدّ أفكاري كالأفاعي النّهّاشة و تتضخّم كالجبال ينقطع حبل النّوم .. أغرق في حزن شديد بسبب مرض أبي ، أعيد في ذهني كلمات الطّبيبة بكلّ تفاصيلها ، أسترجع ارتباكها و علامات التّأثّر البادية على وجهها حين قالت لي و هي تفحص صور المِفراس :

– الحالة متأخّرة …

هالتني الصّدمةُ ، بكيتُ يومها بكاء مريرا .. و ظللتُ أبكي طوال اللّيل .. ثمّ أصبحتُ ادّخر دموعي لليالي الشّتاء الطّويلة كي لا يراها أبي نهارا .. الألم يُذهب راحة القلب ، و إذا امتنعت هذه عن الإنسان عزّ مطلبُ النّوم ”

ترنّح جسدي.. اختنق صوتي و انخرطتُ في نشيج مُرٍّ …

انتبهتُ من غفوتي على يد تربّتُ على كتفي و صاحبتها تقول لي : – “كفاك اللّٰهُ الشّرَّ ..يبدو أنّه كابوس ”

وما إن فتحتُ عينيَّ حتّى أحسستُ بدمعة ساخنة نزلت على خدّي ، مسحتُها.. يبدو أنّ الغفوة أراحتني قليلا فخفّ ّالضّغط و بدت الأشياء من حولي أوضح .. ضحكتُ في أعماقي و أنا أقرأ قراءة جليّة على نفس اللوحة البلاستيكية البيضاء بخطّ أحمر ” التّدخين ممنوع ” ..بينما جميع الرّجال في قاعة الانتظار بمن فيهم موظَّف البريد يمتصّون لفائف التّبغ ليصبح المكان غائما بالدّخان الخانق ثمّ يلقون أعقابها على الأرضيّة و يدوسونها و يمرّون في صمت .. ليتني أستطيع ان أدوس حزني و عجزي مثلما يفعلون.. تذكّرتُ أبي و هو يفعل ما يفعلون بحركة رشيقة تزيده وقارا مزيّفا، بينما الدّخانُ يتكثّف في رئتيه فيحرقهما .. و حين ينصحه مُحِبُّوه المُشْفِقُون عليه من خطر الإدمان بالإقلاع عن التّدخين يبتسم مستهينا بالموضوع

ويقول : ” للعمر نهاية واحدة ” …

ليتك يا أبي أدركتَ مبكّرا أن عمري لم ينته ، اما حياتي فتنتهي يوم تغيب أنت ..

أمسيات الشّتاء قصيرة جدّا كالعمر .. حين خرجتُ من مركز البريد كان الظّلامُ يزحف من الشّرق .. عبرتُ الطّريقَ المظلمَ و الفارغَ و أنا أستعدّ لمجابهة السّهاد هذه الليلة أيضا … ليلةٌ أخرى تغرقُ في دموعي .

سلمى بن عبد النور – تونس

اترك رد

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s