المشاركة الفائزة بالترتيب الخامس بمسابقة القصة القصيرة التي اقيمت بمجموعة منبر الأدب الأربعاء 18/11
الطبيبة ..
– مساء الخير، أعتذر لدخولي الماسنجر خاصتك هكذا.
– أهلا بك. لكني لا أعرفك من أنت؟!
– أنا عضو معكم في ذلك الجروب العلمي الخاص بالطب، أحببت التعرف عليك والتعلم منك. فأنا أقرأ ما تكتبين بنهم. تعحبني ثقافتك وكتاباتك …. أنا “حسن سيد” من مصر. عمري” خمس وخمسون ” عاما، أعمل خطاطا ومهندسا للديكور.
– أهلا بك. أنا الدكتورة نهلة، أعمل وأعيش في هولاندا، هاجرت منذ فترة طويلة مع عائلتي. أصلنا من المغرب. استأذنك الآن لدي مريض، سنتحدث لاحقا.
….
الحقيقة لم يكن ذلك اللقاء القصير سوى أملا عظيما وفرجا كبيرا انتظره طوال حياته. أخيرا تعرف على امرأة قد تساعده على الهجرة، سيغادر للأبد، سيعيش بين تلك الشعوب المتحضرة السعيدة. سيتحقق الحلم أخيرا. تمر الأيام وهو يحلم بذلك الجواز البرتقالي. أخيرا وداعا للقهر، للفقر والعوز، وداعا للفوضى، وداعا للشرق الأوسط، وداعا للوحل، ولمستنقعات الدم الكريهه. سأكون نفسي، سأصبح حرا، سأجعلها تحبني، سأفعل المستحيل للحصول على قلبها، وعلى ذلك “الباسبورت” البرتقالي.
تمر الأيام وهما يتواصلان، أصبح أكثر هدوءا ورومانسية وحكمة. يمني قلبه بالأمل.. ماذا لو وصل هناك، كيف ستكون حياته.
ينتظرها كل مساءا وصباح، أصبحت الهواء الذي يتنفسه والليل الذي يلتحفه.
اليوم فاجأته بسؤال: أريد أن أطلب منك طلبا، أرجوك وافق ولا تغضب.
– أغضب منك! هل يعقل هذا؟ أنت عليك أن تأمري وتزجري وتنهي وتتدللي.
– أريد أن أستأذنك في أن أحبك كأبي وصديقي. أرجوك، دعني أعيش هذا الشعور.
– صمت قليلا. تذكر الحرمان والغربة التي تعيشها. ثم قال : ستكونين ابنتي.
– إني أشتاقه، وأخذت تبكي.
– سأكون والدك.
– نادني يا ابنتي.
– أنت يا بنيتي.
– هيا عانقني بقوة، انا أحبك يا أبي. احضني وارمِني في الفضاء .
– سأطيرك كما العصافير، وستعودين إلي بضحكات ونجوم. سأراقصك كل يوم.
– أريد عناقك.
– سأعانقك حتى يلتصق قلبي بضلوعك.
– ستكون نجومي، وقمري، وهوائي .
– سألضم لك من النجمات عقدا وأزينه بقمر وضحكة، وأرسم لك قلبي على غيمة.
– أحبك يا أبي. لا تتركني وحيدة. أنت آماني وسكينتي وكل دنياي.
– سأدور بك بين صديقاتك وأنا أحملك.
– سأقول لهم هذا أبي، كم أنا فخورة بك!
– ستغار الصديقات منك .
– سأخبرهم أنك أجمل الآباء وأرقهم. ما أجمل رائحة عرقك يا أبي إنها تثملني، وما أنعم هذا الشعر في وجهك.. سأرسم على وجنتيك ألف قبلة…
……تمر الاسابيع وهما يعيشان هذا الدور بإتقان. تعيشه بكل حواسها.
………..
أبي : البارحة أحضرت عائلة أحد المرضى الكثير من الورود، لقد نجحت العملية التي أجريتها لابنهم. أنا سعيدة جدا يا أبي..
……..أبي لقد توقفت طواحين أمستردام عن الدوران، وتوقف هطول الثلج أخيرا…. .أبي الأمواج العاتيه أعادت الصيادين من البحر إلى البر اليوم …… أعرف أنك تحب الثلج والبحر والمطر والحرية.
يندلق فنجان القهوة، يسقط، ينكسر، ترفعه؛ فيجرح أصبعها. أبي.. أبي.. أبي، أين ذهبت.. أبي أين ذهبت لم أعد أراك..
أبــــي.. أبي، تصرخ بعلوّ صوتها،
تدخل الممرضة العجوز بلهفة
– ما بك يا بنيتي؟
– اين أبي؟ أين اختفى؟ تصرخ والعبرات تسيل على وجهها الشاحب.
– لا أحد هنا، إنها الحمى، ونوبة الآكتئاب، لقد عادت إليك من جديد، بسبب الإرهاق في العمل. كم أخبرتك أن تأخذي إجازة من العمل لتنعمي بقسط من الراحة ولو قليلا. فالعمل هنا مرهق جدا لفتاة وحيدة بعمرك.
– لا لا أبي كان هنا يحدثني على “الماسنجر”. كنت أحدثه للتو ..
– لكن لا حساب لديك .
– تصمت الدكتورة بذهول غير مصدقة لما تسمع وعيناها تنظران يمنة ويسرة مشوشة خائفة والعبرات تخنقها .
– بحنو وعطف تحتضنها العجوز: كم مرة طلبت منك أن يكون لك حسابا على مواقع التواصل؟ ستلتقين هناك بالكثير من أبناء جلدتك. ولا تدرين قد تلتقين بأحد أعمامك ويعوضك فراق أبيك، ستلتقين هناك بالكثير من العرب. سترين في عيونهم قريتك الصغيرة ، مآذن، سنابل قمح، وأشعة شمس لا تبرد أبدا .
تنتحب الدكتورة بحرقة وصمت . تضمها العجوز إلى صدرها. وتشير بيدها .
– انظري هناك من الذي جاءنا زائرا يا بنيتي ..
– أين ؟
– هناك على النافذة إنهن صديقاتك من العصافير، يأتين كل عام عندما تهطل الثلوج يردن الدفء والحب.
– تركض إليهن. تعالي أيتها العصافير الطيبة، تفتح النافذة تدخل العشرات منهن تعالين إلي قلبي أيتها العصافير الجميلة.. تحتضن إحداهن تسقط دمعة حارة على جناحه.. لتدفئ قلبه الصغير.
تطير العصافير خارج العيادة الصغيرة. تقف على ذراع طاحونة أوقف الثلج دوران أذرعها. تبدأ تتحرك تلك المراوح الهائلة، تراقبها بصمت وهي تدور….. وتدور …وتدور …
..
عواد المخرازي – الأردن