سيمة – علامة – هوية
في طفولتنا، عشنا حياة البادية بكامل تفاصيلها، تحملنا مسؤولية جز صوف الأغنام، وشعر الماعز، كنا نسقي الشياه من البئر (بالدلو) الدلو الذي تفوق سعته في بعض الأحيان 25 لتر ، نجرها بالحبل من جُب البئر، كنا ( نلقي الغذا لإمهاته) و نحفظ الشياه بوجوهها حفظا كاملا راسخا، حتى أننا ابتدعنا للضأن سجلا عائليا في أذهاننا الصافية النقية، طفولتنا كانت بسيطة، لم نكن نعرف التلفاز و المسلسلات الدرامية، و لم نواكب الموضى، بل لم نسمع يوما بمصطلح الماركا… حياة البادية تركت علامات بشخصياتنا، منها العلامات الحسنة و أخرى ليست كذلك… ذات يوم بخيمة الراعي، على أطراف ( عقيرة الملاح ) حيث تكتسي الأرض جلبابها الأخضر المرصع بالورود الفواحة بمختلف ألوان الطيف الزاهية، أمام الخيمة نجلس انا و والدي و عمي و الراعي السوداني آدم.. لقد أختلف والدي و شقيقة – عمي – على أصل عنز ليس لها (عزيلة) هل هذه العنز من ماعز ( الروك ) أم أنها من ماعز امي الذي جلبته معها عند قدومها إلي بيت أبي، و كنت أنا الفيصل في هذا الخلاف، حيث أخبرتهم أن العنز ( الدرعة الواطية ) هي بنت العنز ( الغشوة الغليظة )، و قد وضعتها حين كنا في وادي الصيد منذ ثلاثة أعوام، نعم اخبرتهم هذه التفاصيل، و كيف أنسى و أنا الذي تربيت و عشت و كبرتُ في صُحبة الماعز و الوديان و الصحراء، بعد أن سردت لهم الأدلة الدامغة على أصل العنز (الدرعة) و أثبتت أنها ملك لأمي، توجها ثلاثتنا إلي الضأن و هي ترعي، مبعثرة على أطراف ( العقيرة ) و عند نهاية مجرى (الشطيب) كأنها حبات مطر نزلت من السماء مهندسه و مبدعة موزعة على الأرض بشكل يسر نظر العين و الفؤاد… نادني عمي قائلا ” ي السجل المدني خش وسط الغلم تختل بشواش جيبلنا العنز الي قلت عليها خل نوسموها”، ابتسمت إبتسامة خجولة، و أخذت بعض قطع الخُبز، ناديت الماعز ملوحا بقطعة خُبز، فأتى جُملة بما في ذلك العنز المطلوبة، امسكتها بعد أن كلفتني الكثير من قطع الخبز، و وضعتها في السياراة، اتجهنا بها إلي الخيمة، و كان آدم ينتظرنا، (بمحاور الوسامة ) و هي في النار بدرجة سخونة عالية، حتى أصبحت حمراء كخدود الشفق عند مغيب الشمس، كنتُ انظر إليهم من بعيد و هم يجرون تلك (المحاور ) الحمراء، على آذان العنز، حتى تحدث دخانا كثيفة تتوارى فيه ملاح عمي الذي يجلس قابضا على العنز واضعا ركبته على رقبتها ليتمكن من رسم (السيمة) بشكل متقن و واضح، أكمل عمي وسم العنز و فك وثاقها، اتجهت مسرعةً نحو الضأن، و أنا أتأمل بدايتها الجديدة، حدثتُ نفسي قائلا ” الآن أصبحت لها هوية، الجميع سيعرفها من سيمتها، و كذلك نحن ما اشبهننا بها، فالجميع يعرفوننا من سيمتنا رغم أنها سيمة داخلية، و ليست بعلامات النار كسيمة الضأن، إلا أنها تظل سيمة تخبر الآخرين عن هويتنا”، نادني والدي من بعيد قائلا” ي محمد حط المحاور في (العوين) البارد، هذا فال خير” فعلت ما طلب مني، و ركبت السيارة و اتجه بنا عمي إلي بيت جدتي على بعد مئة كيلومترا، من خيمة الراعي و العقيرة و العنز ذات الهوية الجديدة .
محمد الهرام – ليبيا
هامش –
الغذا – هو جديان الماعز
الدلو – أداة لسحب الماء من البئر
العقيرة – هي الجزء المنخفض من الأرض
الروك – لفظ يطلقه البادية على الرزق المتشرك بين الاخوة
الملاح – أسم نبتة صحراوية
الشطيب – مجرى المياه نحو العقيرة
محاور الوسامة أو السيمة – هي قطع حديد مثنية بشكل معين
السيمة – هي علامة من النار توضع على الأنعام تدل على ملكية تلك الأنعام لشخص ما
الدرعة – هي العنز بالوجه الاسود و النقطة البيضاء بين القرنين
الغشوة – هي العنز بالوجه الأبيض و لون مختلف .
العوين- هو الرماد
شي مميز من كاتب وصحفي جميل
إعجابإعجاب