هروب – محمد الطيب الهرام – ليبيا

هروب

كنا نهرب من المدرسة في إستراحة الفطور، بتسلق جدارها العالي، و نتلقى في اليوم التالي، جزاءً لذلك عشرات الجلدات التي تترك خطوطا حمرا على أيدينا، و رغم قساوة العقاب، إلا أننا كنا نكرر فعلتنا هذه، في كل مرة تكون الحصة الرابعة لمادة الرياضيات أو العلوم، لا لشيء إلا لأننا لا نحبذ المسائل الحسابية الطويلة و الواجب المنزلي في مادة العلوم، و لم نكن نهتم لدروس تشريح جسم الإنسان و مكونات الخلية و دورة حياة النباتات، و لا نعير التربيع و المكعبات و الجبر أي إهتمام، الشيء الوحيد الذي كان يصبرنا على البقاء في تلك المدرسة، هو أستاذ مادة التاريخ الذي يتفرد بأسلوب شرحه عن باقي الاساتذه، حتى أننا عشقنا سيرة السابقين، و تاريخ المسلمين، من جمال و إتقان معلم هذه المادة، كان لحصة التاريخ طابع اخر و طعم جميل نتذوقه رغم صغر عقولنا و عدم نضجها، أستاذ يونس معلم مادة التاريخ، كان يتفنن في سرد القصص بطريقة بسيطة تدخل قلوبنا، تنساب القصص إلي مخيلتنا كإنسياب الماء في مجرى النهر، نسافر مع القصص عبر الزمن إلي تلك الحِقب الرائعة، حيث كان للمسلمين شأن… و بما أن مدرستنا الصغيرة تجمع مرحلتين – أعدادية و ثانوية – و كانت تعاني قصور في توفير الاساتذة، فقد كان أستاذ يونس ملازما لنا في كل الصفوف الإعدادية، و إنتقل معنا إلي الثانوية، لقد عشنا معه بداية الإسلام سرا، ثم إعلان الدعوة جهرا، ثم الهجرة إلي المدينة، و معارك أحد و بدر، و صلح الحديبية، و فتح مكة، سافر بنا عبر الزمن، إلي حقبة الخلفاء الراشدين، و إنتهاء الخلافة، و ولادة دولة الأمويين، و حدثنا عن سيرة العباسيين، و الفاطميين، مرورا بدولة المرابطين، عشنا مع أستاذ يونس التاريخ كاملا مفصلا، حتى وصل بينا الحال أننا لم نعد نهرب من المدرسة عبر جدارها العالي الشبية بجدار ثكنة عسكرية، بل أبتعدنا طريقة آخرى للهروب، أصبحنا نعيد سرد القصص التاريخية في مخيلتنا، أثناء حصص الرياضيات أو العلوم، و المواد الأخرى، فكان الواحد منا جالسا حاضرا بكيانه في الفصل، محلقا بمخيلته و ذهنه مع تلك القصص الجميلة، متعلقا بقدوته الرسول محمد صل الله عليه وسلم، و صحابته الكرام، عمر و عثمان و ابوبكر و علي و الزبير، و بلال و مالك… الهروب من الحصص المملة أصبح سهل، و لا نتلقى بعده أي عقاب… ما أسهل الهروب إلي زمن آخر و وقت آخر بعيد عن الحاضر … كبرنا و اشتد عضدنا، تسلسلنا في سلم الدراسة حتى وصلنا الجامعة و تركنا خلفنا أستاذ يونس يساعد آخرين على الهروب… تخرجنا من الجامعة و لازلنا نهرب… نهرب بأذهاننا حيث عبق التاريخ… نهرب بعيدا عن واقع الأمة الإسلامية المرير، نهرب لنتلذذ بسيرة الفاتحين الأوائل و نقتدي بهم، نهرب بعيدا عن الحاضر بالبحث في تاريخ الإسلام حيث السيادة و الريادة لأمة محمد صلوات الله وسلامه عليه .. لازلنا نهرب.. و نعيد تكرار الهروب مرة ثم أخرى، و مرات عديدة، و ما أجمله من هروب .

محمد الطيب الهرام – ليبيا

اترك رد

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s