من حكايات شارعنا – محمد الطيب الهرام – ليبيا

من حكايات شارعنا

كشك سيدي مرعي المُطل من بعيد، بشموخ عند المدخل الشرقي لشارعنا، ينبض بالحياة كأنه من الأحياء، وليس جماد، تعلو الكشك لافتة من خشب كُتِب عليها بطلاء أزرق ( كشك يثرب لبيع الصحف و الكتب )… عند الثامنة صباحا يُقبل إلي كشك يثرب اغلب سكان الشارع و الأزقة و الأحياء المجاورة، الازدحام عند هذا الكشك لا مثيل له في أي مكان آخر و لا حتى على شبابيك المصارف أو المخابز أو الجمعيات الإستهلاكية…تجد امام الكشك في الطابور الطويل، طفل حافي القدمين يحمل بعض الدراهم واقفا ليشتري جريده لأمه التي تتابع أحد القصص القصيرة المجزءه بين أعداد أحد الصحف… و تجد عدد من الفتية جائوا لشراء صحف الرياضة لمعرفة آخر أخبار دوريات كرة القدم، و الإطلاع على مقالات التحليل للمبارايات في الجولات الماضية، في الطابور يقف بعض الطلبة لإقتناء الكتب العلمية التي تم توفيرها حديثا…البعض الآخر يقف لأجل الأعداد الشهرية للصحف الشعبية التراثية، ليداعب صفحاتها، و يتلذذ بما فيها من أشعآر و قصائد جديده … ثله من أبناء الشارع يزاحمون الآخرون لإقتناء الصحف السياسية لمعرفة آخر التطورات السياسية على الصعيد الدولي و المحلي… بعض الجيران و قلة من سكان الاحياء المجاورة يقفون لإقتناء القصص و الروايات التي توفرة مؤخرا… بإختلاف الثقافات و الأفكار و المستويات التعليمية و الإهتمامات، كان يقف الجميع في طابور واحد أمام كشك يثرب … سيدي مرعي رغم أنه لم يدخل مدرسة قّط، و تعلم فقط القراءه و الكتابة عند فقيه المسجد القديم، إلا أن مرافقته للكتب و الجرائد جعلته يتعلم بسرعة و يصبح شخصية مثقفة متعلمه لا مثيل لها في شارعنا و ما يجاوره… مرعي البالغ من العمر ثلاث و خمسون عاما، ورث كشك الصحف و الكتب من والده و أستمر في ذات المهنة… يجني سيدي مرعي أرباح ممتازه من الكشك و ما يكفي من المال ليعيش و أسرته المكونه من خمس أفراد – هو و زوجته و بناته الثلاث – بكرامة و عزة … سيدي مرعي من خيرة رجال الشارع الذين لا يكلون و لا يملون من خدمة الشارع، فهو يدفع دون بخل عندما يجتمع الجيران على تصليح شيء ما أو جلب مصلحة عامة للشارع، سيدي مرعي يعيد صيانة الجامع العتيق كل عام من ماله الخاص… سيدي كنا نلقب سيدي مرعي بهذا لأننا أطفال و هو كبير السن بمثابة أب أو عم لنا، لذا التصق به هذا اللقب و أصبح ملازما لإسمه … كالعادة، كل يوم عند الساعة العاشرة يبدأ الحشد امام الكشك في التقلص إلي أن ينتهي، و يبدأ الازدحام في مقهى شاكوش المقابل لكشك سيدي مرعي، بمجرد أن تطأ قدمك المقهى تتطاير كلمات التحليل إلي مسامعك، الجميع يخوض في الأحداث و يعلق على مستجدات اليوم من أخبار رياضية و إقتصادية و سياسية، محلية و إقليمية و عالمية… كشك سيدي مرعي جعل من مقهى شاكوش منتدى ثقافي بكامل التفاصيل … اتذكر عندما أعلن سيدي مرعي أنه سيوفر بعض الروايات و القصص، و من بينها مسرحيات شكسبير و فنتازيا تولكين، و روايات و قصص نجيب محفوظ و خليفة الفاخري، إزداد الحشد أمام الكشك اليوم التالي بشكل رهيب جدا حتى أن رجل المرور تدخل ذلك اليوم لتنظيم الطابور …أطفالا، شبابا و شيبا كانوا جميعهم يتنفسون القراءه و يعشقون الأدب و الثقافة و العلم … في عصر التكنولوجيا و الهواتف الذكية، الجرائد لا قيمه لها و قلّ من يقرأ و يهتم لأمر الأدب، في عصر الموضى و المظاهر أصبح كشك سيدي مرعي مجرد خردة على قارعة الطريق… سيدي مرعي الآن مقعد لا يقدر على المشي، تزوجن بناته الثلاث و غادرن الشارع، يعيش و محبوبة القلب ملكته التي تخدمه بوفاء دون تأفف أو تقصير… مساء أمس بينما كنتُ عائدا للبيت، وقع بصري على قطعة خشب مغطاة بالتراب و بعض القمامة بوسطها كلمة يثرب بلون أرزق، التقطت قطعة الخشب و صببت عليها بعض الماء حتى اتضحت كامل الجملة المكتوبة عليها ( كشك يثرب لبيع الصحف و الكتب )، و في ذات اللحظة خرج جاري الجديد من منزله، و خاطبني مبتسما قائلا ” لماذا تغسل لوح القمامة خاصتي” ، فنظرت بحزن و قلت ” إنها ليست مجرد لوحه لتنظيف مكان القمامة إنها هوية جيل كامل”، ثم طلبت منه أن أخذ هذه القطعة معي، فقال بكل سخرية “إنها مجرد قمامة بإمكانك الاحتفاظ بها”… فأخذت اللافتة الخاصة بكشك سيدي مرعي سابقا و مشيت صوب منزلي محدثا نفسي ” إنها بنسبة لي ليست قمامة، إنها هوية جيل يعرف قيمة القِراءه” …

محمد الطيب الهرام – ليبيا

اترك رد

إملأ الحقول أدناه بالمعلومات المناسبة أو إضغط على إحدى الأيقونات لتسجيل الدخول:

شعار ووردبريس.كوم

أنت تعلق بإستخدام حساب WordPress.com. تسجيل خروج   /  تغيير )

صورة تويتر

أنت تعلق بإستخدام حساب Twitter. تسجيل خروج   /  تغيير )

Facebook photo

أنت تعلق بإستخدام حساب Facebook. تسجيل خروج   /  تغيير )

Connecting to %s